لا يكمن الإبهار في جناح دولة الإمارات في إكسبو 2025 في أوساكا، في قوقعته الأخّاذة المصنوعة من الزجاج والخشب فحسب، بل في قدرته على نسج حكاية تجمع بين تراث إماراتي أصيل وحِرفية يابانية دقيقة، ضمن تصميم يستند إلى ذكاء بيئي مدروس. وعلى أعمدة شاهقة تُعرف باسم «الراشيس»، يبلغ ارتفاعها 16 متراً، يرتقي الجناح ليُظهر كيف تحوّل الزجاج من عنصر تجميلي إلى لغة معمارية تعبّر عن الهوية وتخدم الاستدامة.
لكن هذا الجناح ليس استثناءً عابراً؛ بل يشكّل لحظة فارقة طالما ترقبها المعماريون: لم يعد الزجاج مجرد عنصر جمالي أو رمز للحداثة، بل بات جزءاً من البنية التحتية المعمارية. وإذا استمر التعاطي مع الواجهات بوصفها لوحات جامدة، فإننا بذلك نغلب الشكل على الجوهر، ونمنح الأناقة أولوية على الأداء.
لطالما شكّل المبدأ الحداثي القائل «الشكل يتبع الوظيفة» أساساً في الفكر المعماري، لكنه اليوم يستعيد حضوره في عصر التزجيج. لقد كنّا في زمنٍ مضى مولعين بالشفافية المطلقة الممتدة من الأرض حتى السقف: من «بيت فارنسورث» الشهير من تصميم ميس فان دير روه، إلى مبنى "ليفر هاوس"، وصولاً إلى الأبراج اللامعة التي عرّفت الحداثة بطموحاتها العالية. لكنها كشفت كذلك عن مواطن ضعف الزجاج: فرط الحرارة الداخلية وتكاليف الطاقة الباهظة. وقد جاءت أزمة النفط في سبعينيات القرن الماضي لتجبر الجميع على إعادة النظر، فأوقفت التوسع في الواجهات الزجاجية ودفعت باتجاه تصميمات تركز على الأداء الوظيفي.
اليوم، يواجه المعماريون تحدياً جديداً، حيث ينبغي للأغلفة الزجاجية أن تستجيب بذكاء للمناخ والسياق. ففي المناطق الحارة مثل الخليج، لم تعد المسألة تتعلق بكمية الزجاج بل بنوعيته وسلوكه الحراري. ويتطلب ذلك دمجاً مبكراً بين علوم المواد وفيزياء البناء ضمن مراحل التصميم الأولى.
في مستشفى «أمان» في الدوحة ومركز «الغاليريا» في أبوظبي، استُخدمت مشربيات تقليدية للحد من الكسب الحراري عبر تظليل المساحات الداخلية خلال فصل الصيف القاسي، مع السماح في الوقت ذاته بدخول أشعة الشمس خلال الأشهر الباردة لتوفير التدفئة الطبيعية. أما جناح الإمارات في إكسبو 2025، فيعتمد على زجاج معزول بتقنية التفريغ الهوائي—وهي تقنية غالباً ما تُستخدم في البيئات شديدة البرودة—تسهم في تنظيم الحرارة وخفض استهلاك الطاقة.
هذه المشاريع تؤذن بتحوّل عميق: لم يعد الزجاج رمزاً هشاً للترف، بل بات عنصراً جوهرياً في معادلة التصميم المستدام. فالواجهات عالية الكفاءة، وأنظمة التظليل الذكية، والتقنيات الصوتية المتطورة، كلها تؤدي اليوم دوراً محورياً في الحد من الأثر البيئي. يجب أن يُنظر إلى الزجاج بوصفه أداة لتحقيق التوازن بين الراحة البشرية والمسؤولية البيئية، لا مجرد عنصر بصري جاذب.
يفرض هذا التحوّل على المعماريين التخلي عن ما يصفه البعض بـ«الأمل الخادع» أو (Hopium)—وهو الاعتقاد الخاطئ بأن الجمال وحده كفيل بحل مشكلات الطاقة والراحة. الزجاج لا بد أن يُهندَس بدقة ووعي. وإذا لم يُدمج الأداء في صميم التصميم منذ البداية، فقد تتحول الأبنية الزجاجية إلى عبء بيئي يفوق فائدتها الجمالية.
لم تعد الواجهات الزجاجية الحديثة مجرد سطوح عاكسة للضوء، بل أصبحت أنظمة نشطة تُظلّل وتُعزل وتتكيف. فهي تدمج مستشعرات لرصد الظروف البيئية وتوليد الطاقة، وتوفر بيئات داخلية تستجيب بمرونة للتغيرات المناخية واحتياجات المستخدمين.
ولبناء الغد، لا بد من احتضان هذا التعقيد، ورفض الحلول السطحية. فالمستقبل المعماري يُبنى على التقاء الجمال بالعلم، والذوق بالدقة الهندسية. وإذا أُحسن التنفيذ، سيغدو الزجاج وسيطاً لا يكشف الحيّز المعماري فحسب، بل يعيد تشكيله، ويُثري التجربة الإنسانية، ويحمي كوكبنا في آن معاً.
https://www.erembusiness.com/opinions/29r7cx5